سورة مريم - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


ولما كانت هذه السورة تالية للسورة الواصفة للكتاب- الذي به نعمة الإبقاء الأول- بالاستقامة البالغة، افتتحها بالأحرف المقطعة، كما افتتح السورة التي تلي أم الكتاب، الداعيةَ إلى الصراط المستقيم، الواصفةَ الكتابَ بالهدى الضامن للاستقامة، والتي تلي واصفته، والتي تلي الأنعام المشيرة إلى نعمة الإيجاد الأول، فقال: {كهيعص} وهي خمسة أحرف على عددها مع تلك السور، وهي جامعة النعم، وواصفة الكتاب، وذات النعمة الأولى، وذات النعمة الثانية، كما افتتحت الأعراف التالية لذات النعمة الأولى بأربعة على عددها مع قبلها من الأم الجامعة والواصفة وذات النعمة الأولى، وكما افتتحت آل عمران التالية للواصفة بثلاثة على عددها مع الأم والواصفة {ذكر} أي هذا الذي أتلوه عليكم ذكر {رحمت ربك} أي المحسن إليك بالتأييد بكشف الغوامض وإظهار الخبء {عبده} منصوب برحمة، لأنها مصدر بني على التاء، لا أنها دالة على الوحدة {زكريا} أي ابن ماثان، جزاء له على توحيده وعمله الصالح الذي حمله عليه الرجاء للقاء ربه، والرحمة منه سبحانه المعونة والإجابة والإيصال إلى المراد ونحو ذلك من ثمرات الرحمة المتصف بها العباد {إذ نادى} ظرف الرحمة {ربه}.
ولما قدم تشريفه بالذكر والرحمة والاختصاص بالإضافة إليه فدل ذلك على كمال القرب، قال: {نداء خفياً} أي كما يفعل المحب القريب مع حبيبه المقبل عليه في قصد خطاب السر الجامع بين شرف المناجاة ولذاذة الانفراد بالخلوة، فأطلع سبحانه عليه لأنه يعلم السر وأخفى، فكأنه قيل: كما ذلك الندا؟ فقيل: {قال رب} بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب {إني وهن} أي ضعف جداً {العظم مني} أي هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني، وهو أصل بنائه، فكيف بغيره! ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها {واشتعل الرأس} أي شعره مني {شيباً ولم أكن} فيما مضى قط مع صغر السن {بدعائك} أي بدعائي إياك {رب شقياً} فأجرِني في هذه المرة أيضاً على عوائد فضلك، فإن المحسن يربي أول إحسانه بآخره وإن كان ما ادعوا به في غاية البعد في العادة، لكنك فعلت مع أبي إبراهيم عليه السلام مثله، فهو دعاء شكر واستعطاف؛ ثم عطف على {إني وهن} قوله: {وإني خفت الموالي} أي فعل الأقارب أن يسيئوا الخلافة {من وراءي} أي في بعض الزمان الذي بعد موتي {وكانت امرأتي عاقراً} لا تلد أصلاً- بما دل عليه فعل الكون {فهب لي} أي فتسبب- عن شيخوختي وضعفي وتعويدك لي بالإجابة، وخوفي من سوء خلافة أقاربي، ويأسي عن الولد عادة بعقم امرأتي، وبلوغي من الكبر حداً لاحراك بي معه- إني أقول لك يا قادراً على كل شيء: هب لي {من لدنك} أي من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك، لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات، لا من جهة سبب أعرفه، فإن أسباب ذلك عندي معدومة.
وقد تقدم في آل عمران لذلك مزيد بيان {ولياً} أي من صلبي بدلالة {ذرية} في السورة الأخرى {يرثني} في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوة والعمل {ويرث} زيادة على ذلك {من ءال يعقوب} جدنا مما خصصتهم به من المنح، وفضلتهم به من النعم، من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم، وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف عليهما الصلاة والسلام {ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب} [يوسف: 6] ولأن إسرائيل صار علماً على الأسباط كلهم، وكانت قد غلبت عليهم الأحداث؛ وقد استشكل القاضي العضد في الفوائد الغياثية كونَ {يرث} على قراءة الرفع صفة بأنه يلزم عليه عدم إجابة دعائه عليه الصلاة والسلام لأن يحيى عليه السلام قتل في حياته، ولا يكون وارثاً إلا إذا تخلف بعده، وقد قال تعالى: {فاستجبنا له ووهبنا له يحيى} [الأنبياء: 90] قال: فتجعل استئنافية، ولا يلزم حينئذ إلا خلف ظنه عليه السلام- هكذا نقل لي عنه، وأنا أجلّه عن ذلك، لأنه لا يلزم تخلف دعائه ولا يتجرأ على عليّ مقامه بإخلاف ظنه، لأن الإخبار عن قتله قبله إن كان عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح السند، كان تسمية العلم الذي أخذه عنه في حياته إرثاً مجازاً مرسلاً باعتبار ما يؤول إليه في الجملة، لا سيما مع جواز أن يكون يحيى عليه السلام علَّمه لمن عاش بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى العلم إرثاً على وجه الاستعارة التبعية بقوله عليه الصلاة والسلام «العلماء ورثة الأنبياء» ولا شك أن من ضرورة تعلم العلم حياة المأخوذ عنه، ولم يرد منع من تسميته إرثاً حال الأخذ، هذا إذا صح أن يحيى عليه السلام مات قبل زكريا عليه السلام، وحينئذ يؤول {من وراءي} بما غاب عنه، أي عجزت عن تتبع أفعال الموالي بنفسي في حال الكبر، وخفت سوء فعلهم إذا خرجوا من عندي وغابوا عني، فهب لي ولداً يكون متصفاً بصفاتي، فكان ما سأله، وإن لم يصح موته قبله بالطريق المذكور لم يصح أصلاً، وينتفي الاعتراض رأساً، فإن التواريخ القديمة إنما هي عن اليهود فهي لا شيء، مع أن البغوي نقل في أول تفسير سورة بني إسرائيل ما يقتضي موت زكريا قبل يحيى عليهما الصلاة والسلام، فإنه قال: آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكانوا من بيت آل داود عليه السلام فمات زكريا عليه السلام، وقيل: قتل، فلما رفع الله عيسى عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم وقتلوا يحيى ابتعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤوس جنوده يدعى بيوزردان صاحب الفيل فقال: إني كنت قد حلفت بإلهي: لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري إلا أن لا أجد أحداً أقتله، فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، وأن بيوزردان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دماً يغلي فقال: يا بني إسرائيل! ما شأن هذا الدم يغلي؟ قالوا: هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا، فقال: ما صدقتموني، قالوا: لو كان تأول زماننا لتقبل منا، ولكن قد انقطع منا الملك والوحي فلذلك لم يقبل منا، فذبح منهم بيوزردان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلاً من رؤوسهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحهم على الدم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فلما رأى بيوزردان أن الدم لا يهدأ قال لهم: يا بني إسرائيل! ويلكم! أصدقوني واصبروا على أمر ربكم، فقد طال ما ملكتم الأرض تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار أنثى ولا ذكر إلا قتلته، فلما رأوا الجد وشدة القتل صدقوا الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله عز وجل، فلو أطعناه فيها لكان أرشد منا، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه، فقال لهم بيوزردان: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكريا، قال: الآن صدقتموني، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم، فلما رأى بيوزردان أنهم صدقوه خر ساجداً وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوش، وخلا في بني إسرائيل، ثم قال: يا يحيى بن زكريا! قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي من قومك أحداً، فهدأ الدم بإذن الله تعالى، ورفع بيوزردان عنهم القتل وقال: آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره، وقال لبني إسرائيل: إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لست أستطيع أن أعصيه، قالوا له: افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقاً وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم، فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من بني إسرائيل، فلما بلغ الدم عسكره أرسل بيوزردان أن ارفع عنهم القتل، ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد.
فهذا كما ترى ظاهر في أن يحيى تخلف بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام وكذا ما تقدم في آل عمران عن الإنجيل في قصة ولادته.
ولما ختم دعاءه بقوله: {واجعله رب} أي أيها المحسن إلي {رضياً} أي بعين الرضا منك دائماً حتى يلقاك على ذلك، قيل في جواب من كأنه قال: ماذا قال له ربه الذي أحسن الظن به؟: {يا زكريا إنا} أي على ما لنا من العظمة {نبشرك} إجابة لدعائك؛ وقراءة الجماعة غير حمزة بالتشديد أوفق من قراءة حمزة للتأكيد الذي جيء به، لأن المبشر به لغرابته جدير بالإنكار {بغلام اسمه يحيى} ثم وصفه بما عرف به أن مما شرفه به أن ادخر له هذا الاسم فقال: {لم نجعل له} فيما مضى، ولعله أتى بالجار الدال على التبعيض تخصيصاً لزمان بني إسرائيل قومه فقال: {من قبل سمياً} فكأنه قيل: ما قال في جواب هذه البشارة العظمى؟ فقيل: {قال} عالماً بصدقها طالباً لتأكيدها، والتلذيذ بترديدها، وهل ذلك من امرأته أو غيرها؟ وهل إذا كان منها يكونان على حالتهما من الكبر أو غيرها غير طائش ولا عجل {رب} أي المحسن إليّ بإجابة دعائي دائماً {أنّى} أي من أين وكيف وعلى أيّ حال {يكون لي غلام} يولد لي على غاية القوة والنشاط والكمال في الذكورة {وكانت} أي والحال أنه كانت {امرأتي} كانت شابة {عاقراً} غير قابلة للولد عادة وأنا وهي شابان فلم يأتنا ولد لاختلال أحد السبيبن فكيف بها وقد أسنت! {وقد بلغت} أنا {من الكبر عتياً} أي أمراً في اليبس مجاوزاً للحد هو غاية في الكبر ما بعدها غاية، وقد حصل من ذلك من الضعف ويبس الأعضاء وقحلها ما يمنع في العادة من حصول الولد مطلقاً لاختلال السببين معاً فضلاً عن أن يصلح لأن يعبر عنه بغلام؛ قال البغوي في آل عمران: وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة؛ وقال الرازي في اللوامع: إن هذا على الاستخبار أيعطيه الله الولد بتلك الحال أم يقلبه شاباً؟ ولله تعالى في كل صنع تدبيران: أحدهما المعروف الذي يسلكه الناس من توجيه الأسباب إلى المسببات، والآخر يتعلق بالقدرة المحضة، ولا يعرفه إلا أهل الاستبصار- انتهى. {قال كذلك} أي الأمر؛ ثم علله بقوله: {قال ربك} أي الذي عودك بالإحسان، وذكر مقول القول فقال: {هو} أي خلق يحيى منكما على هذه الحالة {عليَّ} أي خاصة {هين} لا فرق عندي بينه وبين غيره {وقد خلقتك} أي قدرتك وصورتك وأوجدتك.
ولما كان القصد تشبيه حاله بالإتيان منه بولد على ضعف السبب بتقديره من النطفة على ضعف سبيتها لكونها تارة تثمر وتارة لا، وهو الأغلب، أتى بالجار إشارة إلى ذلك فقال: {من قبل} أي قبل هذا الزمان {ولم} أي والحال أنك لم: ولما كان عليه السلام شديد التشوف لما يلقى عليه من المعنى في هذه البشرى، أوجز له حتى بحذف النون وليثبت أنه ليس له من ذاته إلا العدم المحض، وينفي أن يكون له من ذاته وجود ولو على أقل درجات الكون لاقتضاء حاله في هذا التعجب لتذكيره في ذلك فقال: {تك شيئاً} أي يعتد به، ثم أبرزتك على ما أنت عليه حين أردت، فتحقق بهذا أنه من امرأته هذه العاقر في حال كونهما شيخين، ثم قيل جواباً لمن كأنه قال: ما قال بعد علمه بذلك؟: {قال رب} أي أيها المحسن إليّ بالتقريب! {اجعل لي} على ذلك {ءاية} أي علامة تدلني على وقوعه {قال} أي الله: {ءايتك} على وقوع ذلك {ألا تلكم الناس} أي لا تقدر على كلامهم.
ولما بدئت السورة بالرحمة، وكان الليل محل تنزلها «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول» الحديث، قال: {ثلاث ليال} أي بأيامها- كما ذلك عليه التعبير بالأيام في آل عمران حال كونك {سوياً} من غير خرس ولا مرض ولا حبسة عن مطلق الكلام، بل تناجي ربك فيها بتسبيحه وتحميده وتلاوة كتابه وكل ما أردت من مثل ذلك وكذا من عدا الناس من الملائكة وغيرهم من صالح عباد الله، وجعلت الآية الدالة عليه سكوتاً عن غير ذكر الله دلالة على إخلاصه وانقطاعه بكليته إلى الله دون غيره {فخرج} عقب إعلام الله له بهذا {على قومه} أي عالياً على العلية منهم {من المحراب} الذي كان فيه وهو صدر الهيكل وأشرف ما فيه، وهو منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس {فأوحى إليهم} أي أشار بشفتيه من غير نطق: قال الإمام أبو الحسن الرماني في آل عمران: والرمز: الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين، والأول أغلب؛ قال: وأصله الحركة. وسبقه إلى ذلك الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري فقال: وأما الرمز فإن الأغلب من معانيه عند العرب الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحياناً، وذلك غير كثير فيهم، وقد يقال للخفي من الكلام الذي مثل الهمس بخفض الصوت الرمز. ثم نقل أن المراد به هنا تحرك الشفتين عن مجاهد- انتهى. وهو ظاهر أيضاً في الوحي لأنه مطلق الإشارة والكناية والكلام الخفي، فيجوز أن يكون وحيه بكل منهما، لا يقدر على غير ذلك في مخاطبته للناس، فإذا توجه إلى مناجاة ربه سبحانه انطلق أحسن انطلاق {أن سبحوا} أي أوجدوا التنزيه والتقديس لله تعالى بالصلاة وغيرها {بكرة وعشياً} فحملت امرأته كما قلنا فولدت ولداً فسماه يحيى كما بشرناه به فكبر حتى ميز فقلنا: {يا يحيى خذ الكتاب} أي التوراة {بقوة}.
ولما كانت النبوة لا يستضلع بأمرها ويقوى على حملها إلا عند استحكام العقل ببلوغ الأشد، وكان التطويق على أمرها قبل ذلك من العظمة بمكان، دل عليه النون في قوله: {وءاتيناه} بما لنا من العظمة {الحكم} أي النبوة والفهم للتوراة {صبياً} لغلبة الروح عليه، وهذه الخارقة لم تقتض الحكمة أن تكون لنبينا صلى الله عليه وسلم لأن قومه لا عهد لهم بالنبوة، فكانوا إذا كذبوا لا يكون لهم من أنفسهم ما يلزمهم من التناقض، فعُوّض أعظم من ذلك بغرائز الصدق التي أوجبت له تسميته بالأمين ليكونوا بذلك مكذبين لأنفسهم في تكذيبهم له. وبمزيد إبقاء معجزته القرآنيه بعده تدعو الناس إلى دينه دعاء لا مرد له {و} آتيناه {حناناً} أي رحمة وهيبة ووقاراً ورقة قلب ورزقاً وبركة {من لدنا} من مستقرب المستغرب من عظمتنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة {وزكاة} أي طهارة في نيته تفيض على أفعاله وأقواله {وكان} أي جبلة وطبعاً {تقياً} حوافاً لله تعالى {وبراً} أي واسع الأخلاق محسناً {بوالديه ولم يكن} جبلة وطبعاً {جباراً} عليهما ولا على غيرهما؛ ثم قيده بقوله: {عصياً} إشارة إلى أن يفعل فعل الجبارين من الغلظة والقتل والبطش بمن يستحق ذلك كما قال تعالى لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم {جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم} [التحريم: 9] فكان مطيعاً لله قائماً بحقوقه وحقوق عباده على ما ينبغي، فهنيئاً له ما أعطاه من هذه الخلال القاضية بالكمال، والتعبير بصيغة المبالغة يفهم أن المنفي الجبل عليها، وما دونها يذهبه الله بغسل القلب أو غيره {وسلام} أي أيّ سلام {عليه} منا {يوم ولد} من كل سوء يلحق بالولادة وما بعدها في شيء من أمر الدين {ويوم يموت} من كرب الموت وما بعده، ولعله نكر السلام لأنه قتل فما سلم بدنه بخلاف ما يأتي في عيسى عليه الصلاة والسلام {ويوم يبعث} من كل ما يخاف بعد ذلك {حياً} حياة هي الحياة للانتفاع بها، إجابة لدعوة أبيه في أن يكون رضياً، وخص هذه الأوقات لأن من سلم فيها سلم في غيرها لأنها أصعب منه؛ أخرج الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل بني آدم يلقى الله يوم القيامة بذنب وقد يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام فإنه كان سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين، وأهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: ذكره مثل هذه القذاة»
قال الهيثمي: وفيه حجاج ابن سليمان الرعيني وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله ثقات، وأخرجه أيضاً عن عبد الله بن عمرو ابن عباس رضي الله عنهم، لكن ليس فيه ذكر الذكر، ولفظ ابن عباس رضي الله عنهما: كنت في حلقة في المسجد نتذاكر فضائل الأنبياء- فذكره حتى قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي أن يكون أحد خيراً من يحيى بن زكريا، قلنا: يا رسول الله! وكيف ذاك؟ قال: ألم تسمعوا الله كيف نعته في القرآن؟ {يا يحيى خذ الكتاب} إلى قوله: {حياً}، مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين لم يعمل سيئة ولم يهم بهم» ورواه أيضاً البزار وفيه على بن زيد بن جدعان ضعفه الجمهور- وقد وثق، وبقية رجاله ثقات. وأشار سبحانه بالتنقل في هذه الأطوار إلى موضع الرد على من ادعى لله ولداً من حيث إن ذلك قاضٍ على الولد نفسه وعلى أبيه بالحاجة، وذلك مانع لكل من الولد والوالد من الصلاحية لمرتبة الإلهية المنزهة عن الحاجة، وقد مضى في آل عمران ما تجب مراجعته.


ولما كان حاصل القصة أنه ولد أخرجه الله تعالى عن سبب هو في ضعفه قريب من العدم، أما من جهته فبلوغه إلى حد من السن وحال في المزاج لا يقبل حركة الجماع عادة، أما من جهة زوجته فلزيادتها مع يأسها ببلوغها إلى نحو ذلك السن بكونها عاقراً لم تقبل حبلاً قط، أتبعه بقصة هي أغرب من قصته بكونها ليس فيها إلا سبب واحد وهو المرأة، وعدم فيها سبب الذكورية أصلاً، إشارة إلى أنه تعالى يخلق ما يشاء تارة بسبب قوي، وتارة بسبب ضعيف، وتارة بلا سبب، ومن كان كذلك كان مستغنياً عن الولد؛ ولما كان على اليهود الآمرين بالسؤال تعنتاً عن قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين أن ينصحوا العرب بالإعلام بأن دينهم باطل لشركهم، فلم يفعلوا فكانوا جديرين بالتبكيت، وكانت قصة زكريا أعظم في تبكيتهم بمباشرتهم لقتله وقتل ولده يحيى عليهما السلام، قدمها في الذكر، وتوطئة لأمر عيسى عليه السلام كما مضى بيانه في آل عمران إلزاماً لهم بالاعتراف به، وللنصارى بالاعتراف بأنه عبد، كما اعترف كل منهما بأمر يحيى عليه السلام، وذلك بما جمع بينهما من خرق العادة، وكانت قصة يحيى أولى من قصة إسحاق عليهما السلام لما تقدم، ولمشاهدة الذين اختلفوا في عيسى عليه السلام من الفريقين لأمره وأمر يحيى عليهم الصلاة والسلام لما لهما من الاتحاد في الزمن مع ما لهما من قرب النسب، ولما كانت قصة عيسى عليه السلام أغرب، أشار إلى ذلك بتغيير السياق فقال عاطفاً على ما تقديره: اذكر هذا لهم: {واذكر} بلفظ الأمر {في الكتاب مريم} ابنة عمران خالة يحيى- كما في الصحيح من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة الأنصاري رضي الله عنهما في حديث الإسراء: «فلما خلصت فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة» ثم أبدل من {مريم} بدل اشتمال قوله: {إذ} أي اذكر ما اتفق لها حين {انتبذت} أي كلفت نفسها أن اعتزلت وانفردت {من أهلها} حالة {مكاناً شرقياً} عن مكانهم، فكان انفرادها في جهة مطالع الأنوار إشارة إلى ما يأتيها من الروح الإلهي {فاتخذت} أي أخذت بقصد وتكلف، ودل على قرب المكان بالإتيان بالجار فقال: {من دونهم} أي أدنى مكان في مكانهم لانفرادها للاغتسال أو غيره {حجاباً} يسترها {فأرسلنا} لأمر يدل على عظمتنا {إليها روحنا} جبرائيل عليه السلام ليعلمها بما يريد الله بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب، لئلا يشتبه عليها الأمر، ويتشعب بها الفكر، فتقتل نفسها غماً {فتمثل لها} أي تشبح وهو روحاني بصورة الجسماني {بشراً سوياً} في خلقه حسن الشكل لئلا تشتد نفرتها وروعها منه؛ ثم أخرج القصة مخرج الاستئناف فقال دالاً على حزمها وخلوص تعبدها لله والتجائها إليه وشهودها له بحيث لا تركن إلى سواه: {قالت}.
ولما كان على أنهى ما يكون من الجمال والخلال الصالحة والكمال، فكان بحيث يستبعد غاية الاستبعاد أن يتعوذ منه أكدت فقالت: {إني أعوذ بالرحمن} ربي الذي رحمته عامة لجميع عباده في الدنيا والآخرة، وله بنا خصوصية في إسباغ الرحمة وإتمام النعمة {منك} ولما تفرست فيه- بما أنار الله من بصيرتها وأصفى من سريرتها- التقوى، ألهبته وهيجته للعمل بمضمون هذه الاستعاذة بقولها: {إن كنت تقياً قال} جبرئيل عليه السلام مجيباً لها بما معناه: إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً، مؤكداً لأجل استعاذتها، {إنما أنا رسول ربك} أي الذي عذت به أي فأنا لست متهماً، متصف بما ذكرت وزيادة الرسلية، وعبر باسم الرب المقتضي للإحسان لطفاً بها، ولأن هذه السورة مصدرة بالرحمة، ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده {لأهب} بأمره أو ليهب هو على القراءة الأخرى {لك} وقدم المتعلق تشويقاً إلى المفعول ليكون أوقع في النفس؛ ثم بينه معبراً بما هو أكثر خيراً وأقعد في باب البشرى وأنسب لمقصود السورة مع أنه لا ينافي ما ذكر في آل عمران بقوله: {غلاماً} أي ولداً ذكراً في غاية القوة والرجولية {زكياً} طاهراً من كل ما يدنس البشر: نامياً على الخير والبركة {قالت} مريم: {أنّى} أي من أين وكيف {يكون لي غلام} ألده {ولم يمسسني بشر} بنكاح أصلاً حلال ولا غيره بشبهة ولا غيرها.
ولما هالها هذا الأمر، أداها الحال إلى غاية الإسراع في إلقاء ما تريد من المعاني لها لعلها تستريح مما تصورته، فضاق عليها المقام، فأوجزت حتى بحذف النون من كان ولتفهم أن هذا المعنى منفي كونه على أبلغ وجوهه فقالت {ولم أك}. ولما كان المولود سر من يلده، وكان التعبير عنه بما هو من مادة الغلمة دالاً على غاية الكمال في الرجولية المقتضي لغاية القوة في أمر النكاح نفت أن يكون فيها شيء من ذلك فقالت: {بغياً} أي ليكون دأبي الفجور، ولم يأت بغية لغلبة إيقاعه على النساء، فكان مثل حائض وعاقر في عدم الإلباس ولأن بغية، لا يقال إلا للمتلبسة به {قال} أي جبريل عليه السلام {كذلك} القول الذي قلت لك يكون.
ولما كان لسان الحال قائلاً: كيف يكون بغير سبب؟ أجاب بقوله: {قال} ولما بنيت هذه السورة على الرحمة واللطف والإحسان بعباد الرحمن، عبر باسم الرب الذي صدرت به بخلاف سورة التوحيد آل عمران المصدرة بالاسم الأعظم فقال: {ربك هو} أي المذكور وهو أيجاد الولد على هذه الهيئة {عليّ} أي وحدي لا يقدر عليه أحد غيري {هين} أي خصصناك به ليكون شرفاً به لك.
ولما كان ذلك أعظم الخوارق، نبه عليه بالنون في قوله، عطفاً على ما قدرته مما أفهمه السياق: {ولنجعله} بما لنا من العظمة {ءاية للناس} أي علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام، وبه تمام القسمة الرباعية في خلق البشر، فإنهه أوجده من أنثى بلا ذكر، وحواء من ذكر بلا أنثى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى، وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً {ورحمة منا} لمن آمن به في أول زمانه، ولأكثر الخلق بالإيمان والإنجاء من المحن في آخر زمانه، لا كآية صالح عليه السلام لأنها كانت آية استئصال لأهل الضلال {وكان} ذلك كله {أمراً مقضياً} أي محكوماً به مبتوتاً هو في غاية السهولة لا مانع منه أصلاً، ونبه على سرعة تسبيب الحمل عن هذا القول وإن كان التقدير بما أرشد إليه في غير هذه السورة: فنفخ في درعها فوصل النفخ إلى جوفها {فحملته} وعقب بالحمل قوله: {فانتبذت به} أي فاعتزلت- وهو في بطنها- حالة {مكاناً قصياً} أي بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي، وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله: {فأجاءها} أي فأتى بها وألجأها {المخاض} وهو تحرك الولد في بطنها للولادة {إلى جذع النخلة} وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان، وكان تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها، فكانت كالعلم لما فيها من العجب، لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد، ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة لها، لأنها لا تحمل إلا بإلقاح من ذكور النخل، فحملها بمجرد هزها أنسب شيء لإتيانها بولد من غير والد، فكيف إذا كان ذلك في غير وقته! فكيف إذا كانت يابسة! مع ما لها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها، وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك.
ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً، كان كأنه قيل: يا ليت شعري! ما كان حالها؟ فقيل: {قالت} لما حصل عندها من خوف العار: {ياليتني مت} ولما كانت كذلك أشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جار: {قبل هذا} أي الأمر العظيم {وكنت نسياً} أي شيئاً من شأنه أن ينسى {منسياً} أي متروكاً بالفعل لا يخطر على بال، فولدته {فناداها من تحتها} وهو عيسى عليه السلام {ألا تحزني} قال الرازي في اللوامع: والأصح أن مدة حملها له وولادته ساعة لأنه كان مبدعاً، ولم يكن من نطفة تدور في أدوار الخلقة- انتهى. ونقله ابن كثير وقال: غريب عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويؤيده أنه لم ينقل في كتابنا ولا عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم أنكروا عليها زمن الحمل، ولو علموا به لأنكروه ولو أنكروه لنقل كما نقل إنكار الولادة.
ولما أنكروا الولادة فكأنها قالت: لم لا أحزن؟ وتوقعت ما يعلل به؟ قال: {قد جعل ربك} أي المحسن إليك {تحتك} في هذه الأرض التي لا ماء جارياً بها {سرياً} جدولاً من الماء جليلاً آية لك تطيب نفسك {وهزي إليك} أي أوقعي الهز وهو جذب بتحريك.
ولما كان المقصود التهويل لصرف فكرها عما دهمها من الهم جعله قاصراً فكأنها قالت: ما أهز؟ إذ لم يكن في الجذع ما يتوقع نفعه بهزه، فقال مصرحاً بالمهزوز: {بجذع النخلة} التي أنت تحتها مع يبسها وكون الوقت ليس وقت حملها فكأنها قالت: ولم ذاك؛ فقال: {تساقط عليك} من أعلاها {رطباً جنياً} طرياً آية أخرى عظيمة تطيب النفس وتذهب بالحزن، وتدل على البراءة، والتعبير بصيغة التفاعل في قراءة الجماعة وحمزة للدلالة على أن التمر يسقط منها، ومن حقه أن يكون منتفياً لأنها غير متأهلة لذلك، فهو ظاهر في أنه على وجه خارق للعادة، وقراءة الجماعة بالإدغام تشير مع ذلك إلى أنه مع شدته يكاد أن يخفي كونه منها ليبسها وعدم إقنائها، وقراءة حمزة بالفتح والتخفيف تشير إلى سهولة تساقطه وكثرته، وقراءة حفص عن عاصم بالضم وكسر القاف من فاعل، تدل على الكثرة وأنه ظاهر في كونه من فعلها.


ولما كان من المعلوم أنها هزت فتساقط الرطب، سبب عنه قوله: {فكلي} أي فتسبب عن الإنعام عليك بالماء والرطب أن يقال لك تمكيناً من كل منهما كلي من الرطب {واشربي} من ماء السرى {وقري} أي استقري {عيناً} بالنوم، فإن المهموم لا ينام، والعين لا تستقر ما دامت يقظى، وعن الأصمعي أن المعنى: ولتبرد دمعتك، لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة، واشتقاق {قري} من القرور، وهو الماء البارد- انتهى.
وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه: وحكى الفراء أن قريشاً ومن حولهم يقولون: قررت به عيناً- أي بكسر العين- أقر، وأن أسداً وقيساً وتميماً يقولون: قررت به عيناً- أي بالفتح- أقر، قال- يعني الفراء: فمن قال: قررت- أي بالكسر- قراً، وقرى عيناً- أي بالفتح، وهي القراءة المعروفة، ومن قال: قررت،- أي بالفتح قراً وقري عيناً- بكسر القاف أي وهي الشاذة، قال- أي القزاز: هي لغة كل من لقيت من أهل نجد، والمصدر قرة وقرور.
وسيأتي في القصص ما ينفع هنا، وهو على كل حال كناية عن طيب النفس وتأهلها لأن تنام بالكفاية في الدنيا بطعام البدن وغذاء الروح بكونه آية باهرة، والآخرة بالكرامة وذلك على أنفع الوجوه، قيل: ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل؛ ثم سبب عن ذلك قوله مؤكداً إيذاناً بأن أكثر رؤيتها في تلك الأوقات الملائكة عليهم السلام {فإما ترين} أي يا مريم {من البشر أحداً} لا تشكين أنه من البشر ينكر عليك {فقولي} لذلك المنكر جواباً له مع التأكيد تنبيهاً على البراءة لأن البريء يكون ساكناً لاطمئنانه والمرتاب يكثر كلامه وحلفه: {إني نذرت للرحمن} أي الذي عمت رحمته فأدخلني فيها على ضعفي وخصني بما رأيت من الخوارق {صوماً} أي صمتاً ينجي من كل وصمة وإمساكاً عن الكلام {فلن} أي فتسبب عن النذر أني لن {أكلم اليوم إنسياً} فإن كلامي يقبل الرد والمجادلة ولكن يتكلم عني المولود الذي كلامه لا يقبل الدفع، وأما أنا فأنزه نفسي عن مجادلة السفهاء فلا أكلم إلا الملائكة أو الخالق بالتسبيح والتقديس وسائر أنواع الذكر، قالوا: ومن أذل الناس سفيهاً لم يجد مسافهاً، ومن الدلالة عليه بالصمت عن كلام الناس مع ما تقدم الإشارة إلى أنه ردع مجرد {فأتت} أي فلما سمعت هذا الكلام اشتد قلبها، وزال حزنها، وأتت {به} أي بعيسى {قومها} وإن كان فيهم قوة المحاولة لكل ما يريدونه إتيان البريء الموقن بأن الله معه {تحمله} غير مبالية بأحد ولا مستخفية فكأنه قيل: فما قالوا لها؟ فقيل: {قالوا يا مريم} ما هذا؟ مؤكدين لأن حالها في إتيانها يقتضي إنكار كلامهم {لقد جئت} بما نراه {شيئاً فرياً} قطيعاً منكراً {ياأخت هارون} في زهده وورعه وعفته وهو صالح كان في زمانها أو أخو موسى عليه السلام {ما كان أبوك} أي عمران ساعة من الدهر {امرأ سوء} لنقول: نزعك عرق منه {وما كانت أمك} في وقت من الأوقات {بغياً} أي ذات بغي أي عمد لتتأسى بها {فأشارت} امتثالاً لما أمرت به {إليه} أي عيسى ليكلموه فيجيب عنها {قالوا كيف نكلم} يا مريم {من كان في المهد} أي قبيل إشارتك {صبياً} لم يبلغ سن هذا الكلام، الذي لا يقوله إلا الأكابر العقلاء بل الأنبياء والتعبير ب {كان} يدل على أنه حين الإشارة إليه لم يحوجهم إلى أن يكلموه، بل حين سمع المحاورة وتمت الإشارة بدا منه قوله خارق لعادة الرضعاء والصبيان، ويمكن أن تكون تامة مشيرة إلى تمكنه في حال ما دون سن الكلام، ونصب {صبياً} على الحال، فلما كانت هذه العبارة مؤذنة بذلك استأنف قوله: {قال} أي واصفاً نفسه بما ينافي أوصاف الأخابث، مؤكداً لإنكارهم أمره فقال: {إني عبد الله} أي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لا أتعبد لغيره، إشارة إلى الاعتقاد الصحيح فيه، وأنه لا يستعبده شيطان ولا هوى {ءاتاني الكتاب} أي التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف على صغر سني {وجعلني} أي في علمه {نبياً} ينبئ بما يريد في الوقت الذي يريد، وقيل في ذلك: فانبئكم به {وجعلني مباركاً} بأنواع البركات {أين ما} في أي مكان {كنت} فيه.
ولما سبق علمه سبحانه أنه يدعي في عيسى الإلهية أمره أن يقول: {وأوصاني بالصلاة} له طهرة للنفس {والزكاة} طهرة للمال فعلاً في نفسي وأمراً لغيري {ما دمت حياً} ليكون ذلك حجة على من أطراه لأنه لا شبهة في أن من يصلي لإله ليس بإله {وبراً} أي وجعلني براً، أي واسع الخلق طاهره.
ولما كان السياق لبراءتها فبين الحق في وصفه، صرح ببراءتها فقال: {بوالدتي} أي التي أكرمها الله بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر، فلا والد لي غيرها {ولم يجعلني جباراً شقياً} بأن أفعل فعل الجبارين بغير استحقاق، إنما أفعل ذلك بمن يستحق، وفيه إيماء إلى أن التجبر المذموم فعل أولاد الزنا، وذلك أنه يستشعر ما عنده من النقص فيريد أن يجبره بتجبره، ثم أخبر بما له من الله من الكرامة الدائمة مشيراً إلى أنه لا يضره عدو، وإلى أنه عبد لا يصلح أن يكون إلهاً وإلى البعث فقال: {والسلام} أي جنسه {عليَّ} فلا يقدر أحد على ضرري {يوم ولدت} فلم يضرني الشيطان ومن يولد لا يكون إلهاً {ويوم أموت} كذلك أموت كامل البدن والدين، لا يقدر أحد على انتقاصهما مني كائناً من كان {ويوم أبعث حياً} يوم القيامة كما تقدم في يحيى عليه السلام، إشارة إلى أنه في البشرية مثله سواء لم يفارقه أصلاً إلا في كونه من غير ذكر، وإذا كان جنس السلام عليه كان اللعن على أعدائه، فهو بشارة لمن صدقة فإنه منه، ونذارة لمن كذبه، ولم يكن لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثل هذه الخارقة لئلا يلتبس حاله بالكهان، لأن قومه لا عهد لهم بالخوارق إلا عندهم، وإذا تقرر ذلك في نفوسهم من الصغر صعب زواله، ولم يكن هناك ما ينفيه حال الصغر، فعوض عن ذلك إنطاق الرضعاء كمبارك اليمامة وغيره، وإنطاق الحيوانات العجم، بل والجمادات كالحجارة وذراع الشاة المسمومة والجذع اليابس وغيرها.

1 | 2 | 3 | 4 | 5